سورة الفتح - تفسير تفسير البقاعي

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (الفتح)


        


ولما ذكر سبحانه وتعالى أهل بيعة الرضوان، وأضافهم إلى حضرة الرحمن، تشوف السامع إلى الخبر عمن غاب عن ذلك الجناب، وأبطأ عن حضرة تلك العمرة، فاستؤنف الإخبار عما ينافقون به بقوله تعالى: {سيقول} أي بوعد لا خلف فيه، وأكد أمر نفاقهم تنبيهاً على جلدهم فيه ووقاصهم به ولطف النبي صلى الله عليه وسلم وشدة رحمته ورفقه وشفقته فقال: {لك} أي لأنهم يعلمون أنك ألطف الخلق عشرة وأعظمهم شفقة على عباد لله، فهم يطمعون في قبولك من فساد عذرهم ما لا يطمعون فيه من غيرك من خلص المؤمنين، وغاب عنهم- لما عندهم من غلظ الأكباد أن الكذب بحضرتك في غاية القباحة لأنك أعظم الخلق وأفطنهم، مع ما يأتيك من الأنباء عن علام الغيوب، وحقر أمرهم بسلب العقل عنهم وجعلهم مفعولين لا فاعلين إشارة إلى أنهم طردوا عن هذا المقام، لأنهم أشرار لئام، فقال تعالى: {المخلفون} أي الذين- خلفهم الله عنك ولم يرضهم لصحبتك في هذه العمرة، فجعلهم كالشيء التافه الذي يخلفه الإنسان، لأنه لا فائدة فيه فلا يؤبه له ولا يعبأ به، وذلك إنه صلى الله عليه وسلم لما أراد الاعتمار ندب أصحابه رضوان الله عليهم أجمعين لذلك، وندب من الأعراب الذين حول المدينة الشريفة من كان قد أقر بالإسلام، فلم يرد الله حضورهم لأن إسلامهم لم يكن خالصاً فلو حضروا لفسد بهم الحال، وإن حفظ الله بحوله وقوته من الفساد، أعقب ذلك فساداً آخر وهو أن يقال: إنه لم يكف عنهم الأعداء إلا الكثرة، فتخلفوا لما علم الله في تخلفهم من الحكم.
ولما كان قد تخلف بالجسد من خلص الأنصار وغيرهم من كان حاضراً معه صلى الله عليه وسلم بالقلب أخرجهم بقوله: {من الأعراب} أي أهل البادية كذباً وبهتاناً جرأة على الله ورسوله {شغلتنا} أي عن إجابتك في هذه العمرة {أموالنا وأهلونا} أي لأنا لو تركناها ضاعت، لأنه لم يكن لنا من يقوم بها وأنت قد نهيت عن إضاعة المال والتفريط في العيال، ثم سببوا عن هذا القول المراد به السوء قولهم: {فاستغفر} أي اطلب المغفرة {لنا} من الله إن كنا أخطأنا أو قصرنا.
ولما كان هذا ربما يغتر به من لا خبرة له، رده تعالى بقوله منبهاً على أن من صدق مع الله لم يشغله عن شاغل، ومن شغله عنه شيء كان شوماً عليه: {يقولون} وعبر بالمضارع إشارة إلى أن هذا ديدن لهم لا ينفكون عنه. ولما صح بعد ذلك إيمان، لم يعبر بالأفواه دأبه، في المنافقين، بل قال: {بألسنتهم} أي في الشغل والاستغفار، وأكد ما أفهمه ذكر اللسان من أنه قول ظاهري نفياً للكلام الحقيقي الذي هو النفسي بكل اعتبار بقوله: {ما ليس في قلوبهم} لأنهم لم يكن شغل ولا كانت لهم نية في سؤال الاستغفار.
ولما كان فعلهم هذا من تخلفهم واعتلالهم وسؤالهم الاستغفار ظناً منهم أنهم يدفعون عن أنفسهم بذلك المكروه ويحصلون لها المحبوب وكان كأنه قيل: قد علم كذبهم، فماذا يقال لهم؟ استأنف سبحانه الجواب بقوله: {قل} أي لهؤلاء الأغبياء واعظاً لهم مسبباً عن مخادعتهم لمن لا يخفى عليه خافية إشارة إلى أن العاقل يقبح عليه أن يقدم على ما هو بحيث تخشى عاقبته: {فمن يملك لكم} أيها المخادعون {من الله} أي الملك الذي لا أمر لأحد معه لأنه لا كفوء له {شيئاً} يمنعكم منه {إن أراد بكم} أي خاصة {ضراً} أي نوعاً من أنواع الضرر عظيماً أو حقيراً، فأهلك الأموال والأهلين وأنتم محتاطون في حفظهما فلا ينفعها حضوركم أو أهلككم أنتم {أو أراد بكم نفعاً} بحفظهما به مع غيبتكم فلا يضرها بعدكم عنها، ويحفظكم في أنفسكم، وقد علم من تصنيفه سبحانه حالهم إلى صنفين مع الإبهام أنه يكون لبعضهم الضر لأن منهم من ارتد في زمن الردة، ولبعضهم النفع لأنه ثبت على الإسلام.
ولما كان التقدير قطعاً: لا أحد يملك منه سبحانه لهم شيئاً من ذلك بل هو قادر على كل ما يريد منه، فعلكم لما عندكم من الجلافة والغباوة والكثافة فعل من يظن أنه لا يقدر عليكم ولا يعلم كثيراً مما تعملون، فيخفى عليه كذبكم، وليس الأمر كما ظننتم فإنه لا يخفى عليه شيء من أعمالكم، بنى عليه ما أرشد إلى تقديره فقال تعالى: {بل كان الله} أي المحيط أزلاً وأبداً بكل شيء قدرة علماً {بما تعملون} أي الجهلة {خبيراً *} أي يعلم بواطن أموركم هذه وغيرها كما يعلم ظواهرها.
ولما أضرب عن ظنهم أن كذبهم يخفى عليه بأمر عام، وقدمه لأنه أعم نفعاً بما فيه من الشمول، أتبعه الإضراب عن مضمون كلامهم فقال: {بل} أي ليس تخلفكم لما أخبرتم به من الاشتغال بالأهل والأموال {ظننتم} وأنتم واقفون مع الظنون الظاهرة، ليس لكم نفوذ إلى البواطن، وأشار إلى تأكد ظنهم على زعمهم فقال: {أن لن ينقلب} ولما كان الكلام فيما هو شأن الرسول من الانبعاث والمسير، قال مشيراً إلى أن من أرسل رسولاً إلى شيء وهو لا يقدر على نصره ليبلغ ذلك الشيء إلى الغاية التي أرادها منه كان عاجزاً عما يريد: {الرسول} وعظم التابعين فقال: {والمؤمنون} معبراً بما يحق لهم من الوصف المفهم للرسوخ وأفهم تأكيد ذلك عندهم بقوله تعالى: {إلى أهليهم أبداً} أي لما في قلوبكم من عظمة المشركين وحقارة المؤمنين فحملكم ذلك على أن قلتم: ما هم في قريش إلا أكلة رأس.
ولما كان الإنسان قد يظن ما لا يجب، قال مشيراً بالبناء للمفعول إلى أن ما حوته قلوبهم مما ينبغي أن ينزه سبحانه وتعالى عن نسبته إليه وإن كان هو الفاعل له في الحقيقة: {وزين ذلك} أي الأمر القبيح الذي خراب الدنيا {في قلوبكم} حتى أحببتموه.
ولما علم أن ذلك سوء، صرح به على وجه يعم غيره فقال: {وظننتم} أي بذلك وغيره مما يترتب عليه من إظهار الكفر وما يتفرع منه {ظن السوء} أي الذي لم يدع شيئاً مما يكره غاية الكراهة إلا أحاط به. ولما انكشف جميع أمره كشف أثره فقال: {وكنتم} أي بالنظر إلى جمعكم من حيث هو جمع في علمنا قبل ذلك بما جبلناكم عليه وعلى ما كشفه الحال عنه من له بصيرة {قوماً} أي مع قوتكم على ما تحاولونه {بوراً *} أي في غاية الهلاك والكساد والفساد، وعدم الخير لأنكم جبلتم على ذلك الفساد، فلا انفكاك لهم عنه، وهذا كما مضى بالنظر إلى الجميع من حيث هو جمع لا بالنسبة إلى كل فرد فإنه قد أخلص منهم بعد ذلك كثير، وثبتوا فلم يرتدوا.
ولما كان التقدير: ذلك لأنكم لم تؤمنوا، فمن آمن منكم ومن غيركم وأخلص، أبحناه جنة وحريراً، عطف عليه قوله معمماً: {ومن لم يؤمن} منكم ومن غيركم {بالله} أي الذي لا موجود في الحقيقة سواه {ورسوله} أي الذي أرسله لإظهار دينه وهو الحقيق بالإضافة إليه، معبراً عنه بالاسم الأعظم، وللزيادة في تعظيمه وتحقير شانئه وتوهية كيد التفت إلى مقام التكلم بمظهر العظمة فقال: {فإنا} أي على ما لنا من العظمة {أعتدنا} له أو لهم هكذا كان الأصل، ولكنه قال معلقاً للحكم بالوصف إيذاناً بأن من لم يجمع الإيمان بهما فهو كافر، وإن السعير لمن كان كفره راسخاً فقال تعالى: {للكافرين} أي الذين لا يجمعون الإيمان بالمرسل والرسول فيكونون بذلك كفاراً، ويستمرون على وصف الكفر لأنهم جبلوا عليه {سعيراً *} أي ناراً شديدة الإيقاد والتلهب، فهي عظيمة الحر توجب الجنون وإيقاد الباطن بالجوع بحيث لا يشبع صاحبه والانتشار بكل شر، فإن التنكير هنا للتهويل والتعظيم، وهذه الآية مع ما أرشد السياق إلى عطفها عليه ممن يؤمن دالة- وإن كانت في سياق الشرط- على أن أكثرهم يخلص إيمانه بعد ذلك.
ولما انقضى حديث الجنود عامة ثم خاصة من المنتدبين والمخلصين وختم بعذاب الكافرين، وكان المتصرف في الجنود ربما كان بعض خواص الملك، فلا يكون تصرفه فيهم تاماً، وكان الملك قد لا يقدر على عذاب من أراد من جنوده، وكان إذا قدر قد لا يقدر على العذاب بكل ما يريده من السعير الموصوف وغيره لعدم عموم ملكه قال تعالى عاطفاً على آية الجنود: {ولله} أي الملك الأعظم وحده {ملك السماوات والأرض} أي من الجنود وغيرها، يدبر ذلك كله كيف يشاء لا راد لحكمه ولا معقب.
ولما لم يكن في هؤلاء من عذب بما عذب الأمم الماضية من الريح وغيرها، لم يذكر ما بين الخافقين، وذكر نتيجة التفرد بالملك بما يقتضيه الحال من الترغيب والترهيب: {يغفر لمن يشاء} أي لا اعتراض لأحد عليه بوجه ما {ويعذب من يشاء} أي لأنه لا يجب عليه شيء ولا يكافيه شيء، وليس هو كالملوك الذين لا يتمكنون من مثل ذلك لكثرة الأكفاء المعارضين لهم في الجملة، وعلم من هذا التقسيم المبهم أيضاً أن منهم من يرتد فيعذبه، ومنهم من يثبت على الإسلام فيغفر له لأنه لا يعذب بغير ذنب وإن كان له أن يفعل ذلك، لأنه لا يسأل عما يفعل وملكه تام، فتصرفه فيه عدل كيفما كان. ولما كان من يفعل الشيء في وقت قد لا يستمر على وصف القدرة عليه قال تعالى: {وكان الله} أي المحيط بصفات الكمال أزلاً وأبداً، لم يتجدد له شيء لم يكن. ولما ابتدأ الآية بالمغفرة ترغيباً في التوبة، ختم بذلك لأن المقام له، وزاد الرحمة تشريفاً لنبي المرحمة بالترغيب والدلالة على أن رحمته غلبت غضبه فقال: {غفوراً} أي لذنوب المسيئين {رحيماً *} أي مكرماً بعد الستر بما لا تسعه العقول، وقدرته على الإنعام كقدرته على الانتقام. ولما ذم المخلفين بما منه- أي من الذم- أنهم هالكون بعد أن قدم أنه لعنهم، وكان قد وعد سبحانه أهل الحديبية فتح خيبر جبراً لهم بما منعهم من الاستيلاء على مكة المشرفة لما له في ذلك من الحكم البالغة الدقيقة، وختم بأنه نافذ الأمر، وكان ذلك مستلزماً لإحاطة العلم، دل على كلا الأمرين بقوله استئنافاً، جواباً لمن كأنه قال: هل يغفر للمخلفين حتى يكونوا كأنهم ما تخلفوا؟: {سيقول} أي بوعد لا خلف فيه.
ولما كان النبي صلى الله عليه وسلم بحيث لا مطمع لأحد فى أن يظفر منه بشيء من خلاف الأمر الله، أسقط ما عبر به في ذكرهم أولاً من خطابه وقال: {المخلفون} أي لمن يطمعون فيه من الصحابة أن يسعى في تمكينهم من المسير في جيشه صلى الله عليه وسلم لخفاء الحكم عليه ونحو ذلك، ولم يقيدهم بالأعراب ليعم كل من كان يتخلف من غيرهم {إذا انطلقتم} بتمكين الله لكم {إلى مغانم}.
ولما أفهم اللفظ الأخذ، والتعبير بصيغة منتهى الجموع كثرتها، صرح بالأول رفعاً للمجاز فقال: {لتأخذوها} أي من خيبر {ذرونا} أي على أي حالة شئتم من الأحوال الدنية {نتبعكم} ولما كان يلزم من تمكينهم من ذلك إخلاف وعد الله بأنها تخص أهل الحديبية، وأنه طرد المنافقين وخيب قصدهم، علل تعالى قولهم بقوله: {يريدون} أي بذهابكم معكم {أن يبدلوا كلام الله} أي المحيط بكل شيء قدرة وعلماً في الإخبار بلعنهم وإبارتهم، وأن فتح خيبر مختص بأهل الحديبية، لا يشركهم فيه إلا من وافقهم في النية والهجرة، ليتوصلوا بذلك إلى تشكيك أهل الإسلام فيه، والمراد أن فعلهم فعل من يريد ذلك، ولا يبعد أن يكونوا صنفين: منهم من يريد ذلك، ومنهم من لم يرده ولكن فعل من يريده.
ولما كان السامع جديراً بأن يسأل عما يقال لهم، قال مخاطباً لأصدق الخلق عليه الصلاة والسلام: {قل} أي يا حبيب لهم إذا بلغك كلامهم أنت بنفسك، فإن غيرك لا يقوم مقامك في هذا الأمر المهم، قولاً مؤكداً: {لن تتبعونا} وإن اجتهدتم في ذلك، وساقه مساق النفي وإن كان المراد به النهي، لأنه مع كونه آكد يكون علماً من أعلام النبوة، وهو أزجر وأدل على الاستهانة.
ولما أذن هذا التأكيد أنه من عند من لا يخالف أصلاً في مراده، بينه تعالى بقوله: {كذلكم} أي مثل هذا القول البديع الشأن العلي الرتبة {قال الله} أي الذي لا يكون إلا ما يريد وليس هو كالملوك الذين لا قدرة لهم على الغفران لمن شاؤوا والعقاب لمن شاؤوا {من قبل} هذا الوقت، وهو الذي لا يمكن الخلف في قوله، فإنه قضى أن لا يحضر خيبر المرادة بهذه الغنائم إلا من حضر الحديبية، وأمر بذلك فكان ما قال بعد اجتهاد بعض المخلفين في إخلافه فإنهم غيّرهم الطمع بعد سماعهم قول الله هذا، فطلبوا أن يخرجوا معه صلى الله عليه وسلم فمنعوا فلم يحضرها غيرهم أحد، وذلك أنه صلى الله عليه وسلم رجع من الحديبية في ذي الحجة سنة ست، فأقام إلى أثناء محرم سنة سبع، وخرج بأهل الحديبية إلى خيبر ففتحها الله عليه، وأخذ جميع أموالها من المنقولات والعقارات، وأتى إليه صلى الله عليه وسلم وهو بها بعد فتحها ابن عمه جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه وبعض من معهم من مهاجرة الحبشة، فأشركهم النبي صلى الله عليه وسلم مع أهل الحديبية لأنهم لم يكونوا مخلفين بل كانوا متخلفين لعذر عدم الإدراك.
ولما كانوا منافقين لا يعتقدون شيئاً من هذه الأقوال، بل يظنون أنها حيل على التوصل إلى المرادات الدنيوية، سبب عن قولهم له ذلك تنبيهاً على جلافتهم وفساد ظنونهم: {فسيقولون}: ليس الأمر كما ذكر مما ادعى أنه قول الله {بل} إنما ذلكم لأنكم {تحسدوننا} فلا تريدون أن يصل إلينا من مال الغنائم شيء. ولما كان التقدير: وليس الأمر كما زعموا، رتب عليه قوله: {بل كانوا} أي جبلة وطبعاً {لا يفقهون} أي لا يفهمون فهم الحاذق الماهر {إلا قليلاً} في أمر دنياهم، ومن ذلك إقرارهم بالإيمان لأجلها، وأما أمور الآخرة فلا يفهمون منها شيئاً.


ولما كان ذلك يوقع في نفس السامع السؤال عن هذا الطرد: هل يستمر؟ أجيب بأنهم سيمتحنون بأمر شاق يحدثه الله للتمييز بين الخلص وغيرهم، فقال مكرراً لوصفهم بالتخلف إعلاماً بأنهم في الحقيقة ما تخلفوا، بل منعوا طرداً لهم وإبعاداً معذباً لهم بما خلفهم عن اتباع النبي صلى الله عليه وسلم في هذه العمرة من الخوف من قتال قريش لشدة بأسهم كما أثاب المحبين له صلى الله عليه وسلم بضد ما عزموا عليه من القتال إلى النصر أو الموت من كف أيديهم عنهم بما جعله الله سبباً للفتح الأعظم والتفرغ لفتح خيبر وأخذ غنائمها الكثيرة من غير كبير كلفة {قل} يا أعظم الخلف {للمخلفين} وزاد في ذمهم بنسبتهم إلى الجلافة فقال: {من الأعراب} أي أهل غلظ الأكباد، ويجوز أن يكون هذا القيد للاحتراز عن المخلفين من أهل المدينة فيكون إشارة إلى أن الأعراب ينقسمون عند هذا الدعاء إلى مطيع وعاص- كما أشار إليه تقسيمه سبحانه لهم- وأن المخلفين من أهل المدينة لمثل ما اعتل به الأعراب لا مطمع في صلاحهم: {ستدعون} بوعد لا خلف فيه بإخبار محيط العلم والقدرة دعوة محيطة ونفيراً عاماً لما أفهمه الإسناد إلى جميعهم من داع صحت إمامته فوجبت طاعته، ودل على بعدهم من أرضهم بقوله تعالى: {إلى قوم}.
ولما أفهم التعبير بذلك أن لهم قوة وشدة على ما يحاولونه، أوضح المعنى بقوله: {أولي بأس} أي شدة في الحرب وشجاعة مع مكر ودهاء {شديد}. ولما كان المعنى كأنه قيل: لماذا؟ قال تعالى: {تقاتلونهم} أي بأمر إمامكم {أو يسلمون} أي يدعوكم إليهم ليكون أحد الأمرين المظهرين لأن كلمة الله هي العليا: المقاتلة منكم أو الإسلام منهم، فإن لم يسلموا كان القتال لا غير، وإن أسلموا لم يكن قتال، لأن الإمام لا غرض له إلا إعلاء كلمة الله، ولا يكون شيء غير هذين الأمرين من إبقاء بجزية أو مصالحة أو متاركة إلى مدة، ونحو ذلك، وهذا الداعي هو أبو بكر الصديق رضي الله عنه والقوم بنو حنيفة وغيرهم من أهل الردة الذين كان الدعاء لهم أول خلافة الصديق رضي الله عنه، وأما قول من قال: إنهم ثقيف، فضعيف، لأن الدعاء لم يكن إليهم إنما كان المقصود بالذات فتح مكة، وكان أمر هوازن وثقيف وغيرهما تبعاً له في غزوته، لم يكن بينهم شيء، وأيضاً فإن ثقيف لما عسر أمرهم تركهم النبي صلى الله عليه وسلم حتى أسلموا بعد ذلك، وترك أيضاً فلاّل هوازن فلم يتبعهم ولم يؤمر باتباعهم، فظاهر الآية أنه إذا انتشب القتال لم يترك إلا أن حصل الإسلام، والقول بأنهم فارس والروم ضعيف أيضاً، فإن كلاًّ منهم تقبل منه الجزية، وتأويله بأنه إسلام لغوي لا داع له مع إمكان الحقيقة، وقد كان ما أشار إليه التقسيم فإنهم لما دعوا إليهم انقسموا إلى مجيب وهم الأكثر، وقد آتاهم الله الأجر الحسن في الدنيا بالغنيمة والذكر الجميل وهو المرجو في الآخرة، ومرتد وهم قليل وقد أذاقهم الله العذاب الأليم في الدنيا بالقتل على أقبح حال، وهو يذيقهم في الآخرة أعظم النكال، وأما قتال غير العرب فأطاع فيه الكل ولم يحصل فيه ما أشير إليه من التقسيم، فتحقق بهذا أنهم أهل الردة- والله الموفق، ولذلك سبب عن دعوة الحق قوله مردداً القول في حالهم مبهماً له إشارة إلى أنهم عند الدعاء ينقسمون إلى مقبل ومتول: {فإن تطيعوا} أي توقعوا الطاعة للداعي إلى ذلك، وهو أبو بكر رضي الله عنه {يؤتكم الله} أي الذي له الإحاطة والقدرة على الإعطاء والمنع، لا راد لأمره {أجراً حسناً} دنيا وأخرى، جعل الله طاعة أبي بكر رضي الله عنه في هذا الأمر بالخصوص كطاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي طاعته طاعة الله، جزاء له على خصوصه في مزيد تسليمه لما فعله النبي صلى الله عليه وسلم من الصلح وثباته بما أجاب به عمر رضي الله عنهما بمثل جواب النبي صلى الله عليه وسلم من غير أن يكون حاضراً له كما هو معلوم من السيرة.
ولما كانت مخالفة الرسول صلى الله عليه وسلم ومن يقوم مقامه لا تكون إلا من منازعة في الفطرة الأولى ومعالجة لها، عبر بالتفعل فقال: {وإن تتولوا} عن قبول دعوته عصياناً {كما توليتم} أي عالجتم أنفسكم وكلفتموها التولي بالتخلف عن الرسول صلى الله عليه وسلم {من قبل} أي بعض الأزمان التي تقدمت على هذا الدعاء، وذلك في الحديبية {يعذبكم} أي يخالطكم بعقوبة تزيل العذوبة في الدنيا أو في الآخرة أو فيهما {عذاباً أليماً} لأجل تكرر ذلك منكم.
ولما توعد المتخلفين بتخلفهم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم توعدهم في التقاعد عن هذا الإمام القائم بعده بالحق، وكان أهل الأعذار لا يتيسر لهم ما أريد بهذا الدعاء، وكان الدين مبنياً على الحنيفية السمحة، استأنف قوله تعالى مسكناً لما اشتثاره الوعيد من روعهم: {ليس على الأعمى} أي في تخلفه عن الدعاء إلى الخروج مع النبي صلى الله عليه وسلم أو مع غيره من أئمة الدعاء {حرج} أي ميل بثقل الإثم لأجل أن عماه موهن لسعيه وجميع بطشه، ولأجل تأكيد المعنى تسكيناً لما ثار من روع المؤمن كرر النافي والحرج في كل جملة مستقلة تأكيداً لهذا الأمر فقال: {ولا على الأعرج} وإن كان نقصه أدنى من نقص العمى {حرج} وجعل كل جملة مستقلة تأكيداً لهذا الحكم.
ولما ذكر هذين الأثرين الخاصين المزيد ضررهما في العاقة عن كمال الجهاد، عم بقوله: {ولا على المريض} أي بأيّ مرض {حرج} فلم يخرج أهل هذه الأعذار الذين لم يمنعهم إلا إعذارهم عن أهل الحديبية، وأطلب الحرج المنفي ليقبل التقدير بالتخلف ولا حاجة لأن حضورهم لا يخلو عن نفع في الجهاد، وذكر هكذا دون أسلوب الاستثناء إيذاناً بأنهم لم يدخلوا في الوعيد أصلاً حتى يخرجوا منه.
ولما بشر المطيعين لتلك الدعوة وتوعد القاعدين عنها وعذر المعذورين، وكانت إجابة المعذورين جائزة، بل أرفع من قعودهم، ولذلك لم ينف إجابتهم إنما نفى الحرج، قال معمماً عاطفاً على ما تقديره: فمن تخلف منهم فتخلفه مباح له: {ومن يطع الله} أي المحيط بجميع صفات الكمال المفيض من آثار صفاته على من يشاء ولو كان ضعيفاً، المانع منها من يشاء وإن كان قوياً {ورسوله} من المعذورين وغيرهم فيما ندبا إليه من أي طاعة كانت إجابته {يدخله} أي الله الملك الأعظم جزاء له {جنات تجري} ونبه على قرب منال الماء بإثبات الجار في قوله: {من تحتها الأنهار} أي ففي أي موضع أردت أجريت نهراً {ومن يتول} أي كائناً من كان من المخاطبين الآن وغيرهم، عن طاعة من الطاعات التي أمرا بها من أي طاعة كانت {يعذبه} أي على توليه في الدارين أو إحداهما {عذاباً أليماً} وقراءة أهل المدينة والشام {ندخله ونعذبه} بالنون أظهر في إرادة العظمة لأجل تعظيم النعمة والنقمة.


ولما وعد المطيع وأوعد العاصي، وكانت النفوس إلى الوعد أشد التفاتاً، دل عليه بثواب عظيم منه أمر محسوس يعظم جذبه للنفوس القاصرة عن النفوذ في عالم الغيب، فقال مؤكداً لأن أعظم المراد به المذبذبون، مفتتحاً بقد لأن السياق موجب للتوقع لما جرى من السنة الإلهية أنها إذا شوقت إلى شيء دلت عليه بمشهود يقرب الغائب الموعود: {لقد رضي الله} أي الذي له الجلال والجمال {عن المؤمنين} أي الراسخين في الإيمان، أي فعل معهم فعل الراضي بما جعل لهم من الفتح وما قدر له من الثواب، وأفهم ذلك أنه لم يرض عن الكافرين فخذلهم في الدنيا مع ما أعد لهم في الآخرة، فالآيات تقرير لما ذكر من جزاء الفريقين بأمور مشاهدة.
ولما ذكر الرضى، ذكر وقته للدلالة على سببه فقال: {إذ} أي حين، وصور حالهم إعلاماً بأنها سارة معجبة شديدة الرسوخ في الرضى فقال: {يبايعونك} في عمرة الحديبية لما صد المشركون عن الوصول إلى البيت، فبعثت عثمان رضي الله عنه إليهم ليخبرهم بأنك لم تجئ لقتال وإنما جئت للعمرة، فبلغك أنهم قتلوه فندبت إلى البيعة لمناجزتهم فبايعك كل من كان معك على أن لا يفروا لتناجز بهم القوم؛ وزاد الأمر بياناً وقيده تفضيلاً لأهل البيعة بقوله: {تحت الشجرة} واللام للعهد الذهني، وكانت شجرة في الموضع الذي كان النبي صلى الله عليه وسلم نازلاً به في الحديبية، ولأجل هذا الرضى سميت بيعة الرضوان، وروى البغوى من طريق الثعلبي عن جابر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا يدخل النار أحد ممن بايع تحت الشجرة».
ولما دل على إخلاصهم بما وصفهم، سبب عنه قوله: {فعلم} أي لما له من الإحاطة {ما في قلوبهم} أي من مطابقته لما قالوا بألسنتهم في البيعة، وأن ما حصل لبعضهم من الاضطراب في قبول الصلح والكآبة منه إنما هو لمحبة الله ورسوله صلى الله عليه وسلم وإيثار ما يريد من إعلاء دينه وإظهاره لا عن شك في الدين، وسبب عن هذا العلم ترغيباً في مثل هذا المحدث عنهم قوله: {فأنزل السكينة} أي بثبات القلوب وطمأنيتها في كل حالة ترضي الله ورسوله، ودل على عظمها بحيث إنها تغلب الخوف وإن عظم بقوله: {عليهم} فأثر ذلك أنهم لم يخافوا عاقبة القتال لما ندبوا إليه وإن كانوا في كثرة الكفار كالشعرة البيضاء في جنب الثور الأسود، لا أثر الصلح بما يتراءى فيه من الضعف وغيره من مخايل النقص في قلوبهم في ذلك المقام الدحض والمواطن الضنك إلا ريثما رأوا صدق عزيمة الرسول صلى الله عليه وسلم ومضى أمره في ذلك بما يفعل ويقول.
ولما ذكر منّه سبحانه وتعالى عليهم بما هو الأصل الذي لا يبنى إلا عليه، أتبعه آثاره فقال: {وأثابهم} أي أعطاهم جزاء لهم على ما وهبهم من الطاعة والسكينة فيها جزاء، مقبلاً عليهم، يملأ مواضع احتياجهم، هو أهل لأن يقصده الإنسان ويتردد في طلبه لما له من الإقبال والمكنة والشمول {فتحاً} بما أوقع سبحانه من الصلح المترتب على تعجيز قريش عن القتال {قريباً} بترك القتال الموجب بعد راحتهم وقوتهم وجمومهم لاختلاط بعض الناس ببعض فيدخل في الدين من كان مباعداً له لما يرى من محاسنه، فسيكون الفتح الأعظم فتح المكة المشرفة الذي هو سبب لفتح جميع البلاد.
ولما ذكر الفتح ذكر بعض ثمرته فقال: {ومغانم} فنبه بصيغة منتهى الجموع إلى أنها عظيمة، ثم صرح بذلك في قوله: {كثيرة} ولما كان الشيء ربما أطلق على ما هو بالقوة دون الفعل، أزال ذلك بقوله تعالى: {يأخذونها} وهي خيبر. ولما كان ذلك مستبعداً لكثرة الكفار وقلة المؤمنين، بين سببه فقال عاطفاً على ما تقديره: بعزة الله وحكمته: {وكان الله} أي الذي لا كفوء له {عزيزاً} أي يغلب ولا يغلب {حكيماً} يتقن ما يريد فلا ينقض.
ولما قرب ذلك وتأكد وتحرر وتقرر، أقبل سبحانه وتعالى عليهم بالخطاب تأكيداً لمسامعهم فقال مزيلاً لكل احتمال يتردد في خواطر المخلفين: {وعدكم الله} أي الملك الأعظم {مغانم} وحقق معناها بقوله: {كثيرة تأخذونها} أي فيما يأتي من بلدان شتى لا تدخل تحت حصر، ثم سبب عن هذا الوعد قوله: {فعجل لكم} أي منها {هذه} أي القضية التي أوقعها بينكم وبين قريش من وضع الحرب عشر سنين، ومن أنكم تأتون في العام المقبل في مثل هذا الشهر معتمرين فإنها سبب ذلك كله، عزاه أبو حيان لابن عباس رضي الله عنهما وهو في غاية الظهور، ويمكن أن يكون المعنى: التي فتحها عليكم من خيبر من سببها وأموالها المنقولات وغيرها {وكف أيدي الناس} أي من أهل خيبر وحلفائهم أسد وغطفان أن يعينوا أهل خيبر أو يغيروا على عيالاتكم بعد ما وهموا بذلك بعد ما كف أيدي قريش ومن دخل في عهدهم بالصلح {عنكم} على ما أنتم فيه من القلة والضعف.
ولما كان التقدير: رحمة لكم على طاعتكم لله ورسوله وجزاء لتقوى أيديكم، وتروا أسباب الفتح القريبة بما يدخل من الناس في دينكم عند المخاطبة بسبب الإيمان، عطف عليه قوله: {ولتكون} أي هذه الأسباب من الفتح والإسلام {آية} أي علامة هي في غاية الوضوح {للمؤمنين} أي منكم على دخول المسجد الحرام آمنين في العمرة ثم في الفتح ومنكم ومن غيركم من الراسخين في الإيمان إلى يوم القيامة على جميع ما يخبر الله به على ما وقع التدريب عليه في هذا التدبير الذي دبره لكم من أنه لطيف يوصل إلى الأشياء العظيمة بأضداد أسبابها فيما يرى الناس فلا يرتاع مؤمن لكثرة المخالفين وقوة المنابذين أبداً، فإن سبب كون الله مع العبد هو الاتباع بالإحسان الذي عماده الرسوخ في الإيمان الذي علق الحكم به، فحيث ما وجد عليه وجد المعلق وهو النصر بأسباب جلية أو خفية {ويهديكم} في نحو هذا الأمر الذي دهمكم فأزعجكم بالثبات عند سماع الموعد والوعيد والثقة بمضمونه لأنه قادر حكيم، فهو لا يخلف الميعاد بأن يهديكم {صراطاً مستقيماً} أي طريقاً واسعاً واضحاً موصلاً إلى الكرامة من غير شك، وهذا من أعلام النبوة فإنه لم يزغ أحد من المخاطبين بهذه الآية وهم أهل الحديبية وكأنه والله أعلم لذلك لم يقل: ويهديهم- بالغيب على ما اقتضاه السياق لئلا يغم غيرهم ممن يظهر صدقه في الإيمان ثم يزيغ، ولذا أكثر تفاصيل هذه السورة من أعلام النبوة، فإنه وقع الإخبار به قبل وقوعه.
ولما سرهم سبحانه بما بشرهم به من كون القضية فتحاً ومن غنائم خيبر، أتبع ذلك البشارة دالاً على أنها لا مطمع لهم في حوزه ولا علاجه لولا معونته فقال: {وأخرى} أي ووعدكم مغانم كثيرة غير هذه وهي- والله أعلم- مغانم هوازن التي لم يحصل قبلها ما يقاربها. ولما كان في علمه سبحانه وتعالى أن الصحابة رضي الله تعالى عنهم مقرون فيها إلا من لا يمكنه في العادة أن يهزمهم ليحوي الغنائم، فكان ما في علمه تعالى لتحققه كالذي وقع وانقضى، قال تعالى: {لم تقدروا} أي بما علمتم من قراركم {عليها} ولما توقع السامع بعد علمه بعجزهم عنها الإخبار عن السبب الموصل إلى أخذها بما تقرر عند من صدق الوعد بها، قال مفتتحاً بحرف التوقع: {قد أحاط الله} أي المحيط بكل شيء علماً وقدرة {بها} فكانت بمنزلة ما أدير عليه سورة مانع من أن يغلب منها شيء عن حوزتكم أو يقدر غيركم أن يأخذ منها شيئاً، ولذلك وللتعميم ختم الآية بقوله: {وكان الله} أي المحيط بجميع صفات الكمال أزلاً وأبداً {على كل شيء} منها ومن غيرها {قديراً} بالغ القدرة لأنه بكل شيء عليم.

1 | 2 | 3 | 4